English 
Arabic
 

المرأة الأممية الكنعانية

يُسلط الإنجيل الأضواء حول معجزة شفاء ابنة المرأة الكنعانية ( متى ١٥ : ٢١ – ٢٨) التي حدثت على ارض أممية وثنية. وهي تلميح لوصول ملكوت يسوع ليس فقط الى العالم اليهودي بل الى العالم الوثني أيضا. فالوثنيون والأممين وغير اليهود إذا آمنوا بالمسيح، مثل المرأة الكنعانية، يخلصون. 

 

 

انتصار الايمان

 

 

         
   

29/9/2018

الأب د. لويس حزبون

يُسلط إنجيل الاحد الأضواء حول معجزة شفاء ابنة المرأة الكنعانية (متى 15: 21-28) التي حدثت على ارض أممية وثنية. وهي تلميح لوصول ملكوت يسوع ليس فقط الى العالم اليهودي بل الى العالم الوثني أيضا. فالوثنيون والأممين وغير اليهود إذا آمنوا بالمسيح، مثل المرأة الكنعانية، يخلصون. 

أولا: وقائع النص الانجيلي (متى 15: 21-28)

21 ثُمَّ خَرَجَ يسوعُ مِن هُناكَ وذهَبَ إِلى نَواحي صُورَ وصَيدا.

تشير عبارة “خَرَجَ يسوعُ مِن هُناكَ ” الى المرة الوحيدة المعروفة، التي فيها خرج يسوع عن حدود فلسطين خلال خدمته، وذلك لتجنُّب الاحتكاك باليهود المقاومين لرسالته قبل الأوان. امَّا عبارة ” يسوعُ” فتشير الى الصيغة العربية للاسم العبري יֵשׁוּעַ ” يشوع” ومعناه ” الله يخلص”. وقد تسمّى “يسوع” حسب قول الملاك ليوسف (متى 1: 21) ومريم (لوقا 1: 31)، ويسوع هو أسمه الشخصي. وقد وردت لفظة “يسوع” على الاكثر في الاناجيل، واما لفظة “يسوع المسيح” و”الرب يسوع المسيح ” فقد وردت أكثر في سفر اعمال الرسل والرسائل. اما عبارة ” ذهَبَ إِلى نَواحي صُورَ وصَيدا فتشير الى دعوة لجميع الأمم الوثنية إلى الملكوت، فمن خلال هذه الدعوة كسر الحلقة العنصرية؛ اما عبارة ” نَواحي صُورَ وصَيدا ” فتشير الى مدينتين حيث كانت صور وصيدا من أشهر الموانئ على ضفاف البحرالابيض المتوسط لسوريا بعد الحدود الشمالية لفلسطين، وهما تقعان على ارضٍ وثنية فيها مزيج من السكان، من الدين الوثني خاصة، لكن هذه العبارة تدل على معنى لاهوتي أي الامم الوثنية التي سيكون لها نصيب في بشارة يسوع خلال حياته على الارض ولم تنتظر الرسل ليبشروها. ونحن نجد تبشير الوثنيين في جهة الغرب، كما وجدناه في جهة الشرق مع الرجل الممسوس في الجراسين على ضفاف بحيرة طبرية (مرقس 5: 1). قال يسوع ان مسؤولية مدن صور وصيدا الوثنية أقل من مسؤولية المدن حول بحيرة طبريا بكثير لان هذه كانت دوما تسمع بشارته وترى عجائبه ” الوَيلُ لَكِ يا كُورَزين! الوَيلُ لَكِ يا بَيتَ صَيدا! فلَو جَرى في صُورَ وصَيدا ما جرى فيكُما مِنَ المُعجزات، لَتابَتا تَوبةً بِالمِسِح والرَّمادِ مِن زَمَنٍ بَعيد. على أَنِّي أَقولُ لكم: إِنَّ صُورَ وصَيدا سيَكونُ مَصيرهُما يَومَ الدَّينونَةِ أَخفَّ وَطأَةً مِن مَصيرِكما” (متى 11: 21-22).

22 وإِذا امرأَةٌ كَنعانيَّةٌ خارِجَةٌ مِن تِلكَ البِلادِ تَصيح: (رُحْماكَ يا ربّ! يا ابنَ داود، إِنَّ ابنَتي يَتَخَبَّطُها الشَّيطانُ تَخَبُّطاً شديداً).

تشير عبارة “امرأَةٌ كَنعانيَّةٌ ” الى امرأة أممية من سلالة الكنعانيين الذين سكنوا سورية وفلسطين قبل غزوها على يد يشوع. وربما هي اول شخص اممي يؤمن بالمسيح. وصفها انجيل مرقس انها “كانت وَثَنِيَّةً Ἑλληνίς (أي غير يهودية) مِن أَصْلٍ سوريٍّ فينيقيّ” (مرقس 7: 26). فهي فينيقية الجنسية من سورية وليس من لبنان وقد انحدر هؤلاء الفينيقيون من الكنعانيين. وكان الفينيقيون يسمّون أنفسهم كنعانيين، ولقد دلّ اسم كنعان على مرّ التاريخ على مناطق متعددة غير واضحة المعالم، كأرض الميعاد التي اقام فيه بنو اسرائيل الاقدمون، وهذا الشعب ملعون، وهم من أكثر شعوب الأرض شراً، وقد لعنهم أبوهم نوح ” مَلْعونٌ كَنْعان! عَبْدًا يَكونُ لِعَبيدِ إِخوَتِه “(تكوين 9: 25). وهناك نصوص تلمودية كثيرة في هذا الاتجاه منها “الوثنيوّن قطعان من المواشي”، “ويجب احتقارهم وبغضهم” (زوهار، فيشلاخ 177 ب)، اما عبارة “خارِجَةٌ مِن تِلكَ البِلادِ” فتشير الى ترك نجاسات تلك البلاد ومن محيطها المنغلق على ذاته والوثني لتلتقي بالمسيح. إذ ان مدينة صور غرقت في الشر والفساد حتى إن ملكها أدعى الالوهية كما جاء الكتب “قُلْ لِرَئيسِ صور: هكذا قالَ السَّيِّدُ الرَّبّ: لأَنَّ قلبَكَ قد تَشامَخَ فقُلتَ: إِنِّي إِله وعلى عَرشِ إِلهٍ جَلَستَ في قَلبِ البِحار وأَنتَ بَشَرٌ لا إِله ولست جَعَلتَ قَلبَكَ كقَلبِ إِله (حزقيال 1:28). ويعلق العلامة أوريجانوس “عندما يبتعد الخاطئ عن الشرّ ويعود إلى الخير، فإنّه يخرج من تلك الأراضي التي تسود فيها الخطيئة: ويسرع نحو الأراضي التي تعتبر حصّة الله “. أما عبارة “تَصيح ” فتشير الى صيحة الإيمان والثقة. ويعلق القديس اوغسطينوس ” كانت دائمة الصراخ، وكأنها سبقت فسمعت قوله: “إِسأَلوا تُعطَوا، أُطلُبوا تَجِدوا، إِقرَعوا يُفتَحْ لكُم ” (متى 7: 7). اما عبارة “رُحْماكَ يا ربّ! يا ابنَ داود” فتشير الى صلاة مؤمنة يهودية “رُحْماكَ يا ربّ! يا ابنَ داود”. والمرأة لم تعرف النبوءات ولكنها سمعت عن المسيح من اليهود فآمنت. ونادته كما يناديه اليهود. وهذه الصلاة هي صدى لطلب الاعميين ” رُحْماكَ يا ابْنَ داود! “(متى 9: 27) او طلب أعمى أريحا ” رُحْماكَ، يا ابنَ داود، يا يَسوع ” (مرقس 10: 47)؛ اما عبارة ” رُحْماكَ ” فتشير الى انها لم تطلب شفاء من المسيح بل طلبت الرحمة. اما عبارة ” يا ابنَ داود” فتشير الى تعبير يهودي واضح عن المسيا المنتظر وأصبح اللقب الشعبي الخاص بالمسيح (متى 15: 22و 20: 30-31 و21: 9). ويبدو ان بعض معاصري يسوع اعترفوا به ” ابنا لداود” (مرقس 10: 47-48) ولقد أعلن الرسل عن “ابن داود” في كرازتهم (اعمال الرسل 2: 29-32) وفي شهادة ايمان لبولس الرسول (رومة 1: 3-4). اما عبارة ” يَتَخَبَّطُها الشَّيطانُ تَخَبُّطاً شديداً” باليونانية κακῶς δαιμονίζεται. ومعناها ممسوسة شرا، واما مرقس فيصف ابنتها “فيها روح نجس” (مرقس 7: 25)، وتشير الى صيحة استغاثةٍ في الشفاء تخرج من قلب الأمّ المحبّة لان ابنتها تتعذّب عذابًا أليمًا، اما لفظة “الشيطان” فتشير الى ارتباط المرض بالشيطان، فلمّا طُرد الشيطان شُفيت ابنة المرأة الكنعانية. ويلمح انجيل مرقس ان ابنتها “فيها روحٌ نَجِس ” (مرقس 7: 25) وقد تكرَّرت هذه العبارة 23 مرة في العهد الجديد.

23 فلَم يُجِبْها بِكَلِمَة. فَدنا تَلاميذُه يَتَوسَّلونَ إِليهِ فقالوا: (اِصْرِفْها، فإِنَّها تَتبَعُنا بصِياحِها).

تشير عبارة” لَم يُجِبْها بِكَلِمَة” الى صمت الرب على طلبها لشفاء ابنتها، لأنها كانت غريبة عن العهد، الاَّ انه يمكن اعتباره اختباراً، وما الاختبار الا طريقة الله في مبادرته بالخلاص (أفسس 2: 11-18)، ويعلق القديس اوغسطينوس ” صرخت وكأن المسيح لا يسمعها، مع أنه كان يدبّر الأمر بهدوء إنّما ما حدث كان لكي يُلهب رغبتها ويُظهر تواضعها “. وكان صمته أيضا لتستمر في لجاجتها فتطهر. نستطيع القول ان السيد المسيح له طرق مختلفة مع كل انسان ليجذبه للخلاص. اما عبارة “اِصْرِفْها، ” فتشير الى طلب التلاميذ من يسوع ان يعطي المرأة ما تطلب ويصرفها، فيرتاحون من صياحها ولجاجتها، لأنّ كثيرين يسمعونها فتلفت انتباههم إلى هذه المجموعة اليهوديّة. وفي الواقع لعب الرسل دور الوساطة بين يسوع وهذه المرأة لكي يساعدوا الوثنيين على الدخول الى خلاص الله. اما عبارة ” بصِياحِها” فتشير الى لجاجتها وإزعاجها. وهي تذكرنا في تعليم يسوع حول الالحاح في الصلاة “وإِن لم يَقُمْ ويُعطِه لِكونِه صَديقَه، فإِنَّه يَنهَضُ لِلَجاجَتِه، ويُعطيهِ كُلَّ ما يَحتاجُ إِلَيه” (لوقا 11: 8) كما فعل أيضا القاضي الظالم في تلبية طلب الارملة “َهذِه الأَرمَلَةَ تُزعِجُني، فسَأُنصِفُها لِئَلاَّ تَظَلَّ تَأتي وتَصدَعَ رَأسي” (لوقا 18: 4-5).

24 فأَجاب: (لَم أُرسَلْ إِلاَّ إِلى الخِرافِ الضَّالَّةِ مِن بَيتِ إِسرائيل).

تشير عبارة “لَم أُرسَلْ إِلاَّ إِلى الخِرافِ الضَّالَّةِ مِن بَيتِ إِسرائيل ” الى جواب يسوع بالرفض الصريح، وهذا هو صدى لتعليمه للرسل “هؤلاءِ الاثنا عَشَر أَرسلَهُم يسوع وأَوْصاهم قال: لا تَسلُكوا طَريقاً إِلى الوثَنِيِّين ولا تَدخُلوا مَدينةً لِلسَّامرِيِّين، بَلِ اذهَبوا إِلى الخِرافِ الضَّالَّةِ من بَيتِ إِسرائيل” (متى 10: 5-6). لا تتعارض كلمات يسوع هذه مع حقيقة ان رسالة الله لجميع الناس ” فاذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم”(متى 28: 19). ان اليهود يجب ان تكون لهم الفرصة الاولى لقبوله مسيحا، لان الله اختارهم لتقديم رسالة الخلاص لسائر العالم كما قال الله لإبراهيم “وَيتَبَارَكُ بِكَ جَميعُ عَشائِرِ الأَرض” (تكوين12: 3). وبعبارة أخرى اعتبر يسوع نفسه مرسلا بالدرجة الاولى الى بيت إسرائيل، ثم بعد موته وقيامته يُبشَّر الوثنيين بالخلاص (متى 8: 5-13). وما التخصيص إلا مرحلة من المراحل نحو توسّع عالمي اشمل في خطة خلاص الله. لان الله يريد الخلاص لأكبر عدد ممكن لا أقل عدد ممكن. وهناك نصوص كثيرة في انجيل متى تؤيد هذا التفسير كشفاء خادم قائدا المئة (متى 8: 5) ومثل الكرامين ” إنَّ مَلكوتَ اللهِ سَيُنزَعُ مِنْكُم، ويُعطى لأُمَّةٍ تُثمِرُ ثَمرَه” (متى 21: 43). ونستطيع القول إن هذه المرأة عجّلت بفتح باب الخلاص للوثتين. اما عبارة ” الخِرافِ الضَّالَّةِ مِن بَيتِ إِسرائيل)” فتشير الى إسرائيل كلّه الذي ضل الطريق، ولم يعرف يسوع الذي هو “الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة (يوحنا 14: 6) او الى الخاطئين في إسرائيل كما جاء في تعليم يسوع من خلال الخروف الضال” إِذا كانَ لِرَجُلٍ مِائةُ خَروف فضَلَّ واحِدٌ مِنها، أَفلا يَدَعُ التِّسعَةَ والتِّسعينَ في الجِبال، ويَمضي في طَلَبِ الضَّالّ؟ “(متى 18: 12).

25 ولَكِنَّها جاءَت فسَجدَت لَه وقالت: (أَغِثْني يا رَبّ! ).

تشير عبارة “جاءَت فسَجدَت لَه ” الى إلحاح المرأة الكنعانية الوثنية التي سجدت كما سجد الرسل بعد العاصفة (متى 14: 33) وكما فعل أحد الوجهاء “بَينما هو يُكَلِّمُهُم، أتى بَعْضُ الوُجَهاءِ فسجَدَ لَه وقال: (ابنَتي تُوُفِّيَتِ السَّاعة، ولكِن تَعالَ وَضَعْ يَدَكَ عَليها تَحْيَ (متى 9: 18). لقد حقّقت بهذا ما ترنم به صاحب المزامير “اسمَعي يا بِنتُ واَنظُري وأَميلي أُذُنَكِ إِنسَي شَعبَكِ وبَيتَ أَبيكِ فيَصْبُوَ المَلِكُ إِلى حُسنِكِ إِنَّه سَيِّدُكِ فلَه اْسجُدي” (مزمور 45: 10-11). يا له من إيمان عظيم! المحن التي يتعرض لها إيماننا هي التي تنقي الايمان وتبرز قوة الصلاة الحقيقية. اما عبارة “يا رَبّ!” فتشير الى تسمية المرأة الكنعانية ليسوع باسم الرب باليونانية كيريا Κύριε,، اما عبارة “أَغِثْني يا رَبّ! ” فتشير الى صلاة الطلب. فماذا ينقصها بعد لتكون من الابناء، وتنعم بما به ينعمون؟

26 فأَجابَها: (لا يَحسُنُ أَن يُؤخَذَ خُبزُ البَنينَ فيُلْقى إِلى صِغارِ الكِلاب).

تشير عبارة “لا يَحسُنُ أَن يُؤخَذَ خُبزُ البَنينَ” الى تحدّي يسوع للمرأة؛ إنّ جواب يسوع هذا في غاية القسوة: فقد شبّه الكنعانيّة بالكلب. هذه الكلمات قاسية ما كانت تعبّر لا عن فكر يسوع ولا تناسب طريقته اللّطيفة الوديعة في معاملة النّاس البسطاء الصّادقين المحتاجين، إنما عبّر يسوع عن رأي اليهود بشكل عام. ويعلق القديس اوغسطينوس ” بلا شك لا يحتقر السيّد خليقته، أي أن يسوع لم يكن هو من ابتدع عبارة ” لا يجوز أن يؤخذ خبز البنين ويرمى الى الكلاب” القاسية بل كانت مثلا شعبيا منتشرا بين اليهود، الذين كانوا يعتبرون أنفسهم “البنين” وباقي الامم كالكلاب للدلالة على نجاستهم. قصد يسوع ان يسمع تلاميذه ومن ورائهم كل اليهود ما كانوا يرددوه سرا في مجالسهم.
لقد توجه يسوع مباشرة الى تلاميذه الذين توسلوا اليه أن ” يبعدها عنهم لانها تتعبهم بصياحها ” ليبين لهم أن حكمهم على الوثنيين ظالم وبعيد عن الواقع، لأن فهمهم لحقيقة الخلاص الشمولية لم يزل ناقصا. فكأنه يقول لهم انظروا بأعينكم أن الايمان موجود أيضا عند سائر الامم، لا بل أن هذا الايمان العظيم لا مثيل له حتى في اسرائيل.’] ولكنه ربّما قال هذا مردِّدًا ما كان يردِّده اليهود لكي يمجِّد من ظنَّهم اليهود كلابًا، معلنًا كيف صاروا أعظم إيمانًا من البنين أنفسهم”. اما عبارة ” البَنينَ” فتشير الى أبناء البيت وهم اليهود الذين هم في البيت، الشعب الذي له المواعيد، وعنده الانبياء ومنه المسيح وبه يبدأ الخلاص. أما عبارة “صغار الكِلاب ” فتشير الى حيوان نجس يُذكر أحيانا مع الخنزير ” لا تُعطُوا الكِلابَ ما هَو مُقدَّس، ولا تُلْقوا لُؤلُؤَكُم إِلى الخَنازير”(متى 7: 6) وكان اليهود يلقبون به الوثنيين أي الامم الذين هم في خارج البيت، الذين لا يعرفون الله، ولا ينتمون الى ابراهيم. فكان اليهود يعتبرون الغرباء كلاباً من جهة نوال بركة الله. فهناك مقارنة بين البنين (الذين في البيت وهم الشعب اليهودي) والكلاب (الذين هم في الخارج، أي الوثنيون). الكلاب يأكلون بعد البنين والوتينيون ينتظرون دورهم ليصلوا الى المائدة. وكان موقف الرب يقصد امتحان إيمان المرأة. كان السيد المسيح الذي يعلم كل شيء يعرف أن هذه المرأة قادرة على احتمال الموقف ” ما تُصِبْكُمْ تَجرِبَةٌ إِلاَّ وهي على مِقدارِ وُسْعِ الإِنسان. إِنَّ اللهَ أَمينٌ فلَن يأذَنَ أَن تُجَرَّبوا بما يفوقُ طاقتَكم، بل يُؤتيكُم مع التَّجرِبَةِ وَسيلةَ الخُروجِ مِنها بِالقُدرةِ على تَحَمُّلِها” (1 قورنتس 13:10). كان هناك كثيرون من اليهود يفقدون بركة الله وخلاصه لأنهم رفضوا يسوع، وكثيرون من الامم ينالون الخلاص لأنهم آمنوا بالرب يسوع. ويسوع بهذه الإجابة أعطى درسًا لليهود السامعين أن الأمم ليسوا كلابا بل فيهم من هم أحسن من اليهود.

27 فقالت: (نَعم، يا رَبّ! فصِغارُ الكِلابِ نَفْسُها تأكُلُ مِنَ الفُتاتِ الَّذي يَتساقَطُ عَن مَوائِدِ أَصحابِها).

عبارة “صِغارُ الكِلابِ” باليونانية τὰ κυνάρια معناها الكلاب الصغيرة المنزلية الاليفة لا الكلاب الشاردة وهي تشير الى الازدراء والاحتقار التي ننسبه اليها. وهي الكلمة التي استخدمها بولس الرسول في رسالته “إِحذَروا الكِلاب” (فيلبي 3: 2). اما عبارة “نَعم، يا رَبّ!” فتشير الى موافقة المرأة الكنعانية على كلام يسوع كجواب لإيمانها به. ويعلق القديس اوغسطينوس “إنك تنطق بالحق، لكن ينبغي ألا أُحرم من البركة بسبب هذا” اعترفت المرأة بأولوية اليهود في الدخول الى الخلاص. اما عبارة “صِغارُ الكِلابِ نَفْسُها تأكُلُ مِنَ الفُتاتِ الَّذي يَتساقَطُ عَن مَوائِدِ أَصحابِها ” فتشير الى جوابها الذي هو قرارها لدخول في شعب الله وأن يكون لها ما للأبناء، وتحصل على بركة الله بشفاء ابنتها. فهي لا تطلب المقاسمة ولا المناصفة، ولكن المشاركة في الفائض. واقرَّت ان الله اختار شعبا جعل منه يسوع نقطة انطلاق لرسالته، فالاختيار يتضمن امتياز، ولكنه يتضمن أيضا مسؤولية. وقَبل يسوع، بناء على طلب الوثنية، ان يوزّع خبز البنين (المخصص لليهود) على صغار الكلاب” (الأمم) معلنا ان الخبز الذي كان مُخصَّصاً لإسرائيل، يوزّع يوما على الجميع. ان اختيار الله مجاني، لا اعتباط ولا عنصرية بل نعمة من اجل العالم. وهذا الحوار له أهميته بخصوص دخول اول الشعوب الوثنية في حظيرة كنيسة يسوع المسيح.

28 فأَجابَها يسوع: (ما أَعظمَ إِيمانَكِ أَيَّتُها المَرأَة، فَلْيَكُنْ لَكِ ما تُريدين). فشُفِيَتِ ابنَتُها في تِلكَ السَّاعة.

تشير عبارة ” ما أَعظمَ إِيمانَكِ أَيَّتُها المَرأَة، ” الى مدح يسوع للمرأة أمام الجميع على إيمانها، وهذا هو هدفه من حواره مع المرأة، حيث استحسن إيمانها، كما كان موقفه من إيمان قائد المائة سابقا ” أُعْجِبَ بِه وقالَ لِلَّذينَ يَتبَعونَه: ((الحَقَّ أَقولُ لَكم: لَم أَجِدْ مِثلَ هذا الإِيمانِ في أَحَدٍ مِنَ إِسرائيل ” (متى 8: 10). وهكذا أوجدت بإيمانها مكانا لنفسها بين اولاد إبراهيم وإسحق ويعقوب. واستحقت أن تجلس على المائدة مع البنين وأن تحصل على خبز البنين، وبالتالي انضمت هذه المرأة للملكوت الذي أتى المسيح ليؤسسه. اما عبارة ” فَلْيَكُنْ لَكِ ما تُريدين” فتشير الى استجاب طلب الكنعانية، وهو شفاء ابنتها، فكان لها ما ارادت بإيمانها. ويعلق القديس اوغسطينوس “ما حُرم منه اليهود أصحاب الوعود بسبب كبريائهم نالته الأمم المحرومة من المعرفة خلال التواضع”. اما عبارة ” فشُفِيَتِ ابنَتُها في تِلكَ السَّاعة” فتشير الى شفاء ابنة الكنعانية عن بُعد. ويعلق القديس أوغسطينوس” أن شفاء ابنة هذه المرأة دون أن يذهب المسيح إليهما معناه أن الأمم سيخلصون بالكلمة دون أن يذهب المسيح إليهم بالجسد”. ليس المسيح الذي ينتظره الشعب اليهودي، بل هو المخلص الذي ينتظره جميع البشر. انه يستطيع ان يُحرر من جميع قوى الشر التي تُهمين على البشر.

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 15: 21-28)

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (متى 15: 21-28)، نستنتج انه يتمحور حول كيفية وصول الوثنيين الى الخلاص؟ الجواب إذا آمنوا مثل المرأة الكنعانية يخلصون. فالإيمان المفتوح لجميع الشعوب. ومن هنا نبحث في نقطتين: ايمان المرأة الكنعانية وشمولية رسالة يسوع الانجيلية.

إيمان المرأة الكنعانية

هناك تناقض عجيب بين موقف الفريسيين الذين يقاومون المسيح وبين هذه المرأة الكنعانية الأممية الوثنية التي تحيا في النجاسة. لقد تحوّل الكتبة والفرّيسيّون بعمى قلوبهم عن يسوع، وقاوموه (متى 15: 10-20) ولم يكتشفوه، وهم الذين يحفظون الناموس، بسبب كبريائهم ومحبتهم للمال، في حين سعت المرأة الكنعانية الأممية الوثنية التي تحيا في النجاسة أن تكتشف في يسوع مسيحًا شافيًا قادرًا أن يصنع المعجزات، فجأت تطلب الشفاء لابنتها التي يتخبطها الشيطان (متى 15: 22)، فالتقت بيسوع وفيها بتفجّرالايمان.

وعبّر النص الإنجيلي عن إيمان الكنعانية تعبيراً رمزيا عَبَر صورة الخبز، كما يبدو في الحوار بين يسوع وبينها “أَجابَها: ((لا يَحسُنُ أَن يُؤخَذَ خُبزُ البَنينَ فيُلْقى إِلى صِغارِ الكِلاب).” فقالت: ((نَعم، يا رَبّ! فصِغارُ الكِلابِ نَفْسُها تأكُلُ مِنَ الفُتاتِ الَّذي يَتساقَطُ عَن مَوائِدِ أَصحابِها)) (متى 15: 26-27). وهكذا استطاعت ان تحقق فيها نبوءة اشعيا ” رَأَوا ما لم يُخبَروا بِه وعايَنوا ما لم يَسمَعوا بِه ” (اشعيا 52: 15). ويُعلن بولس الرسول أنّه في حين رفض الشعب المختار خبز البنين، فتَحَ رفضهم الباب للوثنيين (الكلاب) كما جاء في تعليمه “نِلتُمُ الآنَ رَحمَةً مِن جَرَّاءِ عِصْيانِهم” (رومة 11: 30). ويعلق القديس اوغسطينوس “الذين لم يُرسل إليهم الانبياء هم الذين سمعوا الأنبياء أولا وفهموا، الذين لم يسمعوا من قبل، لما سمعوا تعجّبوا وقبلوا. والذين أرسل إليهم الأنبياء بقَوا يحملون الكتب ولا يفهمون الحقيقة التي فيها”. فصارت هذه المرأة الكنعانية الملحدة الوثنية ابنة لإبراهيم ومثالا ومثلا للمؤمنين في العالم الوثني كما كان زكا العشار إبناً لإبراهيم مثالا للتائبين في الشعب اليهودي. وقد أصبحت هذه المرأة الوثنية ابنة لإبراهيم لا بما مارسته من شريعة، بل من أجل إيمانها. إذا كانت القضية قضية إيمان فهي تؤمن، ولن تنتظر ان يأتي دور الوثنيين بعد ان يهتدي اليهود. فهي تعتبر نفسها من منذ الآن من الأبناء.

وقد آمنت المرأة الكنعانية ان يسوع ابن داود، “رُحْماكَ يا ربّ! يا ابنَ داود” (متى 15: 22)، ابن داود هو اللقب الشعبي الخاص بالمسيح (متى 15: 22و 20: 30-31 و21: 9) يبدو ان بعض معاصري يسوع اعترفوا به ” ابنا لداود” (مرقس 10: 47-48) ولقد أعلن ابن داود في كرازة الرسل (اعمال الرسل 2: 29-32) وفي شهادة ايمان لبولس الرسول “في شَأنِ ابنِه الَّذي وُلِدَ مِن نَسْلِ داوُدَ بِحَسَبِ الطَّبيعةِ البَشَرِيَّة، وجُعِلَ ابنَ اللهِ في القُدرَةِ، بِحَسَبِ روحِ القَداسة، بِقِيامتِه مِن بَينِ الأَموات، أَلا وهو يسوعُ المسيحُ ربّنا” (رومة 1: 3-4).

وقَبِل يسوع لقب “أبن داود ” (متى 21: 9)، انه ذاك الذي كلّفه الله بإعلان مجيء الملكوت وافتتاحه بآلامه وموته، لكنه لم يحقق هذا الملكوت بالطريقة الحربية والمجيدة التي كانوا يتوقعونها أحياناً، لان فئة من معاصريه كانوا ينظرون اليه نظرة بشرية سياسية في جوهرها. إنه اتى “ليخدم” كما صرّح “هكذا ابنُ الإِنسانِ لم يأتِ لِيُخدَم، بَل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفسِه جَماعَةَ النَّاس ” (متى 20: 28). انه أتى لا ليستولي على الشعب بالعنف، بل بالتواضع (يوحنا 18: 37). ولهذا فأبناء مملكته، في ذلك الزمن، هم الاحداث ” يَهتِفونَ في الهَيكَل: هُوشَعْنا لابنِ داود!” (متى 21: 15) و”مساكين الله، الرعاة (لوقا 2: 14).

واستجاب يسوع لصلاة إيمان المرأة الكنعانية “أَغِثْني يا رَبّ!” مثلما صرخ الابرص (1مرقس 1: 40: 41)، ويائريس (مرقس 5: 16) واللص اليمين (لوقا 23: 39). وكشفت هذه المرأة عمق إيمانها امام تحديات يسوع: فقد ابتدأ بعدم الجواب كما لو أنّها غير موجودة! “فلَم يُجِبْها بِكَلِمَة” (متى 15: 23) ثُمَّ، بناءً على توسُّل التلاميذ، أَجاب يسوع “لَم أُرسَلْ إِلاَّ إِلى الخِرافِ الضَّالَّةِ مِن بَيتِ إِسرائيل” (متى 15: 24) وعندما لم يُثنيها كلامه عن عزمها بل واصلت طلبها، قدّم لها الضربة القاضية قائلُا “لا يَحسُنُ أَن يُؤخَذَ خُبزُ البَنينَ فيُلْقى إِلى صِغارِ الكِلاب ” (15: 26)؛ فقد أستعمل يسوع هذه المرّة كلمات جافية إذ يشبّهها بالكلاب التي لا يجوز لها أن تأكل من خبز البنين.

لكن ما قاله يسوع للمرأة ” لَم أُرسَلْ إِلاَّ إِلى الخِرافِ الضَّالَّةِ مِن بَيتِ إِسرائيل، ولا يَحسُنُ أَن يُؤخَذَ خُبزُ البَنينَ فيُلْقى إِلى صِغارِ الكِلاب” (متى 15: 26، 28) لا يمكن فهمه إلاّ امتحانا لإيمان تلك المرأة الوثنية، ودلالة على أنّ الخلاص يبدأ أولاً باليهود ثمّ يعمّ العالم، ومثالاً لتلاميذه لكي يتحرّروا من التزمّت العنصري اليهودي ويذهبوا إلى العالم الوثني بعد موته وقيامته. والمرأة الكنعاني تخطَّت الصعوبات والتحديات وتمكَّنت من أن تكون قوية وتتحمل المعاناة بعزم ثابت وقوة وإصرار فلم تضعف ابداً، ولم تيأس ولم تتراجع، بل ازدادت صياحًا وتصميمًا بالرغم من وجود ايضا تجارب الشيطان الذي كان يصارع ابنتها المريضة. واستطاع أخيرا إيمانها ان ينتزع معجزة شفاء ابنتها من يسوع، وهذ ما لم يعمله في الناصرة ” ولَم يُكثِرْ مِنَ المُعجِزاتِ هُناكَ لِعَدَمِ إِيمانِهِم”(متى 13: 58). وإيمان الكنعانية تلميح الى وصول خدمة الإنجيل في كل العالم. يضع الناس حواجز وحدود، اما الله فنظرته واحدة الى كل أنسان، إنه يرغب في خلاص جميع البشر، وعليه فإن الإيمان يحطم الحواجز بين الشعوب.

والجدير بالذكر ان يسوع أراد أن يلبّي طلب المرأة الكنعانية ليس لأجل جنسها بل لأجل إيمانها. فقال لها “لا يَحسُنُ أَن يُؤخَذَ خُبزُ البَنينَ فيُلْقى إِلى صِغارِ الكِلاب” (متى 15: 26)، لأن اليهود كانوا يصفون هؤلاء الناس بالكلاب، وغاية كلامه أن يسمع اليهود والتلاميذ أن من تعتبرونهم أنجاساً ومزعجين، يستحقون أيضاً الرحمة وخاصةً إذا آمنوا به ووثقوا فيه. لقد فهمت المرأة الفينيقية الكنعانية كلام المسيح، فكان جوابها حكيماً جداً فقالت له “نَعم، يا رَبّ! فصِغارُ الكِلابِ نَفْسُها تأكُلُ مِنَ الفُتاتِ الَّذي يَتساقَطُ عَن مَوائِدِ أَصحابِها”(متى 15: 27). لقد تأكدت المرأة ان المسيح لا يقصد إهانتها على الإطلاق بل أراد أن يوصل رسالته إلى من يسمعه بأن الأمم أيضاً لهم نصيب في محبته وخلاصه.

والنتيجة ان يسوع قام بتهنئة المرأة وعظّم إيمانها قائلا ” ما أَعظمَ إِيمانَكِ أَيَّتُها المَرأَة” (متى 15: 28) واستجاب طلبها وقال كلمة لم يقلها لأحد:” فَلْيَكُنْ لَكِ ما تُريدين “. فشفى ابنتها في الحال. بهذا تحدى يسوع هنا الأفكار والاحكام المسبقة عن فئات الوثنية. فالجميع مدعوون للخلاص.

ويردد التقليد دعاء “يا يسوع المسيح، ابن الله الرب، ارحمني انا الخاطئ!” الذي هو صدى الى صلاة المرأة الكنعانية “رُحْماكَ يا ربّ! يا ابنَ داود”؛ ان يسوع، يستجيب دائما للصلاة التي تتوسل اليه بإيمان سواء كان الامر شفاء من الامراض، او مغفرة خطايا كما حدث مع المرأة الخاطئة ” إِيمانُكِ خَلَّصَكِ فاذهَبي بِسَلام”(لوقا 7: 50).

شمولية رسالة يسوع الإنجيلية

تكمن أهمية معجزة شفاء ابنة المرأة الكنعانية ليست فقط في إيمانها، بل أيضا في انها حدثت على ارض وثنية واقعة نَواحي صُورَ وصَيدا (متى 15: 21)، وهي تلميح لوصول ملكوت يسوع ليس فقط الى العالم اليهودي بل الى العالم الوثني. فالوثنيون إذا آمنوا مثل المرأة الكنعانية يُفُتح أمامهم باب الخلاص. ان علامات مجيء ملكوت الله تصل أيضا الى الوثنيين الذين يفتحون قلوبهم لتعليم يسوع. إن آمنوا كما آمنتْ تلك الكنعانية، فلقب الإيمان يؤدي الى لقب الانتماء إلى الشعب المختار.

ونستنتج هنا بان قيام المسيح بخدمة قصيرة بين الأمم هو تلميح لخدمة الانجيل في كل العالم. وبهذا يؤكد لنا يسوع انه هو مؤسس رسالة الأمم التبشيرية بحسب وصيته “لإعلان البِشارَةَ إِلى الخَلْقِ أَجمَعين” (مرقس 16: 16). ويؤكد ذلك بولس الرسول بان يسوع جاء يبشّر جميع الأمم ” بِه نِلْنا النِّعمَةَ بِأَن نَكونَ رسلاً، فنَهدِيَ إِلى طاعَةِ الإِيمانِ جَميعَ الأُمَمِ الوَثَنِيَّة، إِكرامًا لاسمِه” (رومة 1: 5).

صحيح أن يسوع كان مرسلا في البداية الى الخراف الضالة من بني اسرائيل، لكنه من بعدهم فهو مرسل الى كل أمة تحت السماء. فلا ينبغي ان نرى المسيح مسيحا قوميا ولا ينحصر خلاصه في اليهود. ان البشارة ستنتقل من اليهود الى اليونانيين كما جاء في رسائل بولس الرسول” فإِنِّي لا أَستَحيِي بِالبِشارة، فهي قُدرَةُ اللهِ لِخَلاصِ كُلِّ مُؤمِن، لِليَهودِيِّ أَوَّلا ثُم لِليُونانِيّ ” (رومة 1: 16). وعليه نستنتج ان الناس كلهم مدعوون الى ملكوته، لا فرق بين يهودي ووثني الا بتقوى الله كما جاء في تعليم بولس الرسول” فَلا فَرْقَ بَينَ اليَهودِيِّ واليُونانِيّ، فالرَّبُّ رَبُّهم جَميعًا يَجودُ على جَميعِ الَّذينَ يَدعونَه” (رومة 10: 12). فقد هدم يسوع الحائط الفاصل بين اليهود والوثنيين.

والواقع أنَّ انجيل متى منفتح على الوثنيين، فاول من سجدوا ليسوع هم المجوس (متى 2: 1-12). وأعلن يسوع ان “بِشارَةُ المَلكوتِ هَذه في المَعمورِ كُلِّه شَهادَةً لَدى الوَثَنِيِّينَ أَجمَعين، وحينَئِذٍ تَأتي النِّهاية” (متى 24: 14) “سَوفَ يَأتي أُناسٌ كَثيرونَ مِنَ المَشرِقِ والمَغرِب، فَيُجالِسونَ إِبراهيمَ وَإِسحقَ ويَعقوب على المائِدةِ في مَلَكوتِ السَّمَوات” (متى 8:11). وهناك “جموع كثيرة” ورد ذكرها 40 مرة في انجيل متى تتبع يسوع، معلنة دخول الوثنيين بكثرة في الكنيسة (متى 4: 25) او افراد كقائد المئة (متى 8: 5-13) او قائد المئة والذين يحرسون معه يسوع عند قدمي الصليب (متى27: 54)، يعترفون جميعا بإيمانهم، ويرون في يسوع العبد لجميع الأمم “هُوَذا عَبْدِيَ الَّذي اختَرتُه حَبيبيَ الَّذي عَنهُ رَضِيت. سَأَجعَلُ رُوحي علَيه فيُبَشِّرُ الأُمَمَ بِالحَقّ ” (متى 12: 18-21).

وكانت الجماعة المسيحية الأولى في انجيل متى مـتأهبة لوصية يسوع الأخيرة ” فاذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم” (متى 28: 19). فإن المسيح قد جعل من تلاميذه ” رسلا” “وهَذِه أَسْماءُ الرُّسُلِ الاثنَي عَشَر” (متى 10: 2) الى “اذهَبوا إِلى الخِرافِ الضَّالَّةِ من بَيتِ إِسرائيل ” (متى 10: 6). فكانت تلك المرحلة أولى مراحل رسالة يسوع الجامعة ” وستُعلَنُ بِشارَةُ المَلكوتِ هَذه في المَعمورِ كُلِّه شَهادَةً لَدى الوَثَنِيِّينَ أَجمَعين ” (متى 24: 14).

ومن هنا نستنتج ان الملكوت ليس محصورا على العالم اليهودي، بل إنه مفتوح الى الوثنيين الذين وثقوا بيسوع وفتحوا قلوبهم على تعليمه. ويعلمنا هذا النص بان لا نحصر الخلاص لليهود، بل نفتح ابوابنا للوثنيين. فالإيمان متاح لجميع الناس وهو يحطم الحواجز بين الشعوب. الناس يضعون الحواجز والحدود، اما الله فنظرته واحدة الى كل انسان وهو يرغب في خلاص جميع البشر. فواجب الكنيسة ان تفتح أبوابها للجميع الذين يلتجئون اليها بإيمان كإيمان المرأة الكنعانية وان أن نسعَى حتى لا يبقى أحد خارجا عن الله.

وبناء عليه يجب علينا ان لا نتعامل مع الآخرين بالاستعلاء ولا ان ننظر إليهم نظرة عنصرية يهودية بالكراهية والعداء، ولا ان نتعامل معهم بالقسوة والجفاء. فالآخرون هم اخوة لنا، وشركاء في الدعوة والمصير ومدعوون الى الملكوت. والسيد المسيح يريدنا جميعاً أن نهتم بكل متألم ونصلى لأجله ” لْيُصَلِّ بَعضُكم لِبَعضٍ كَي تُشفَوا” (يعقوب 5: 16). ولنتخذ دور الرسل في الوساطة بين يسوع وبين الناس ولنكن منفتحين لروعة رسالة الله لجميع الناس، ولا نبعد احدا عن الملكوت. وبما اننا جميعا بحاجة الى رحمة لله لنصرخ مع المرأة الكنعانية بإيمان “رُحْماكَ يا ربّ! أَغِثْنا يا رَبّ!”.

الخلاصة

يشكل لقاء يسوع مع المرأة الكنعانية ثلاث عبر. العبرة الأولى هي ذروة ثمار الرسالة الانجيلية بين الوثنيين. وهذا ما تجلى في ايمان المرأة الوثنية بيسوع. اذ استجاب لإيمانها العظيم وقال كلمة لم يقلها لاحد:” فَلْيَكُنْ لَكِ ما تُريدين)). (متى 15: 28). لقد أعدّ حدث إيمان هذه المرأة الوثنية الطريق لإنفتاح رسالة الانجيل على جميع الأمم والشعوب. إن أبوّة الله تشمل جميع البشر ومحبّة يسوع تتّسع لكلّ إنسان. ليس هناك ابناء من جهة، وكلاب من الجهة الأُخرى. يسوع جاء لخلاص الجميع، حتى أنّه أعطى الأفضلية لأولئكَ الذين يؤمنون به ما صرّح بسوع ” ما أَعظمَ إِيمانَكِ أَيَّتُها المَرأَة، (متى 15: 28).

واما العبرة الثانية فهي المواظبة على حياة الصلاة المستمرة من أجل خلاص الذات وربح الاخرين الأقرباء والاحباء الذين تربطنا بهم صلات قرابة وحتى من لا توجد معهم أي قرابة. إن انسحاق هذه المرأة أمام المسيح هو عبرة لنا لننال القبول أمام الرب “أَسكُنُ ومع المُنسَحِقِ والمُتَواضِعِ الرُّوح لِأُحيِيَ أَرْواحَ المتواضِعين وأُحيِيَ قُلوبَ المُنسَحِقين” (اشعيا 57: 15)؛ وبالتال أصبحت المرأة الكنعانية بصلاتها خير مثال لشفاعة القديسين. أنّ شفاعة القدّيسين تكون ضمن وساطة المسيح الإنسان بين الله والنّاس لأنّ عنده وحده الطّبيعتَين الإلهيّة والبشريّة. فهو الوسيط بين الله والطّبيعة الإنسانيّة، ولا مانع من وسطاء بيننا وبين يسوع كما اشارت المرأة الكنعانية في شفاعتها لابنتها عند يسوع، “رُحْماكَ يا ربّ! يا ابنَ داود، إِنَّ ابنَتي يَتَخَبَّطُها الشَّيطانُ تَخَبُّطاً شديداً” (متى 15: 22)، وشفاعة مريم العذراء لأهل عرس قانا الجليل (يوحنا 2: 3) وكما اشارت القصة في دور الرسل في الوساطة بين يسوع وبين المرأة الكنعانية.

واما العبرة الثالثة فهي في مفهومنا من هو المسيح، أنه المسيح “ابن داود” “انه الرب” الملك الذي أتى ليؤسس مملكة لله على الأرض. فهل نحن قد مَلَّكْنا المسيح على قلوبنا حقيقة أو أننا نريده مسيحا بحسب المفهوم اليهودي، مسيحاً أرضيا وسياسيا يصنع المعجزات، مسيحاً يُرضى رغباتنا.