English 
Arabic

شفاء عبد قائد المئة

  فاجاب قائد المئة وقال يا سيد لست مستحقا ان تدخل تحت سقفي.لكن قل كلمة فقط فيبرأ غلامي. لاني انا ايضا انسان تحت سلطان.لي جند تحت يدي.اقول لهذا اذهب فيذهب ولآخر ائت فياتي ولعبدي افعل هذا فيفعل. فلما سمع يسوع تعجب وقال للذين يتبعون.الحق اقول لكم لم اجد ولا في اسرائيل ايمانا بمقدار هذا.  واقول لكم ان كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع ابراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السموات.  واما بنو الملكوت فيطرحون الى الظلمة الخارجية.هناك يكون البكاء وصرير الاسنان.  ثم قال يسوع لقائد المئة اذهب وكما آمنت ليكن لك.فبرأ غلامه في تلك الساعة.

(متى8: 8-13)

 

انتصار الايمان


2/10/2018


الأب د. لويس حزبون

دخل يسوع الى كفرناحوم. وهناك استغاث به قائد مائة من اجل خادمه الذي كان مشرفا على الموت فنال الشفاء. وفي هذه الرواية لا يركَّز لوقا الإنجيلي على معجزة شفاء عبد قائد المئة بكلمة يسوع بقدر ما يركز على إيمان قائد المئة الذي نال الشفاء الروحي. فالإيمان بيسوع المسيح هو الطريق الصحيح. ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص الانجيلي وتطبيقاته.
أولا: وقائع النص الإنجيلي (لوقا 7: 1-10)

1- “ولَمَّا أَتَمَّ جَميعَ كَلامِه بِمَسمَعٍ مِنَ الشَّعْب، دَخَلَ كَفَرناحوم.” تشير عبارة ” بِمَسمَعٍ مِنَ الشَّعْب” ان كلام يسوع موجَّه في الأصل الى تلاميذه (لوقا 6: 20) وتشير أيضا ان المعجزة تتم ضمن تعليم يسوع، فالمعجزة تُثبت تعاليمه وتعزز كلامه.

2- “وكانَ لِقائِدِ مِائةٍ خادِمٌ مَريضٌ قد أَشرَفَ على المَوت، وكانَ عَزيزاً علَيه.”: تشير عبارة “قائِدِ مِائةٍ” الى ضابط في الجيش الروماني على رأس فصيلة مكوّنة من مئة جندي. وكانت درجة قائد المئة بين رتبة ضابط وضابط صف أي بمعنى “باشاجويش” او معاون، له مسؤولية كبرى. اما عبارة “كانَ عَزيزاً علَيه” فتشير الى صفة إنسانية حميدة لدى قائد المئة.

3- “فلمَّا سَمِعَ بِيَسوع، أَوفَدَ إِلَيه بعضَ أَعيانِ اليَهود يَسأَلُه أَن يَأَتِيَ فيُنقِذَ خادِمَه.”: تشير عبارة “أَعيانِ اليَهود ” الى شيوخ اليهود كما ورد في النص اليوناني ” πρεσβύτερος. أمَّا عبارة “أَوفَدَ إِلَيه بعضَ أَعيانِ اليَهود” فتشير الى العلاقة الطيّبة القائمة بين قائد المئة الوثني وشيوخ اليهود. وبفضل هذه العلاقة مع شيوخ اليهود لم يطلب الشفاء بنفسه لخادمه كما ورد في انجيل متى (متى 5-13) إنما عن طريق وفد من شيوخ اليهود (لوقا 7: 2-5).

4- ولَمَّا وصَلوا إِلى يسوع، سأَلوه بِإِلحاحٍ قالوا: (إِنَّهُ يَستَحِقُّ أَن تَمنَحَه ذلك”: تشير عبارة “إِنَّهُ يَستَحِقُّ أَن تَمنَحَه ذلك” الى علاقة “تجارة” (اعطي تُعطى). بما ان قائد المئة صنع مع اليهود حسنا، فطلبوا من يسوع ان يصنع معه حسناً. وهذا الامر يكشف صورة شيوخ اليهود الذين هدفهم ليس شفقه او محبه للعبد او محبه حقيقيه للقائد الروماني، ولكن بحثا للمصلحة الشخصية وكسب هذا الرجل الروماني ذو السلطة عليهم.

5- “لِأَنَّه يُحِبُّ أُمَّتَنا، وهوَ الَّذي بَنى لَنا المَجمَع.”: تشير هذه الآية ان قائد المئة كان ميالا الى اليهود كما كان قائد المئة قرنيليوس في قيصرية الذي كان يَتَصَدَّقُ على الشَّعْبِ اليهودي صَدَقاتٍ كثيرة” (اعمال الرسل 10: 2). ويبدو أنه أدرك ان لدى اليهود رسالة من الله للبشرية، فقد دفع من ماله لبناء المجمع في كفرناحوم.

6- “فمَضى يسوعُ معَهم. وما إِن صارَ غَيرَ بَعيدٍ مِنَ البَيت، حتَّى أَرسلَ إِلَيه قائدُ المِائَةِ بَعضَ أَصدِقائِه يَقولُ له: يا ربّ، لا تُزعِجْ نَفسَكَ، فَإِنِّي لَستُ أَهلاً لِأَن تَدخُلَ تَحتَ سَقْفي”: تشير عبارة “مَضى يسوعُ معَهم” الى ان يسوع استعد للذهاب الى بيت قائد المئة الوثني بالرغم من صعوبة الرجل اليهودي في دخول بيت وثني كما يوكّده بطرس الرسول لدى دخوله بيت قرنيليوس في قيصرية ” تَعلَمونَ أَنَّه حَرامٌ على اليَهودِيِّ أَن يُعاشِرَ أَجنَبِيًّا أَو يَدخُلَ مَنزِلَه” (اعمال الرسل 10: 28)؛ لكن يسوع تمكن ان يلغي شرائع النجاسة بين اليهود والوثنيين. اما عبارة “َإِنِّي لَستُ أَهلاً لِأَن تَدخُلَ تَحتَ سَقْفي” فتشير اولاً الى عدم إحراج يسوع في دخول منزل وثني من ناحية، والى تواضع قائد المئة وقبوله بوضعه كوثني أمام من هو يسوع قدوس الله من ناحية أخرى.

 7- “ولِذلِكَ لم أَرَني أَهلاً لِأَن أَجيءَ إِلَيك، ولكِن قُلْ كَلِمَةً يُشْفَ خادِمي”: تشير عبارة ” قُلْ كَلِمَةً يُشْفَ خادِمي” الى انَّ كلمة واحدة من يسوع وحتى عن بعد لها سلطة على المرض والموت. انه يعترف بقدرة يسوع ويثق ان المسيح يستطيع ان يشفي بكلمة منه. وهذا يكشف حقيقة عمق ايمانه بالمسيح امام الكل. وهنا نتذكر أن الله خلق بكلمة الكون كله. ويسوع سيخلق هذا المريض المشرف على الموت من جديد. اما عبارة “يُشْفَ خادِمي” تشير الى أن معجزة الشفاء هي آية من آيات ملكوت السيد المسيح لنيل الخلاص بالسيد يسوع المسيح (اشعيا 35: 5-6).

8- “فأَنا مَرؤوسٌ ولي جُندٌ بِإِمرَتي، أَقولُ لهذا: اِذهَبْ! فَيَذهَب، وَلِلآخَر: تَعالَ! فيَأتي، ولِخادِمي: اِفعَلْ هذا! فَيَفعَلُه”: تشير عبارة “أَنا مَرؤوسٌ ولي جُندٌ بِإِمرَتي” الى مقابلة نفسه كقائد مع السيد المسيح. فقائد المئة يشبِّه سلطته مع سلطة يسوع، إنه مثله، أنسان “تحت سلطان”. فهو مرؤوس يطيع رئيسه الإمبراطور، وكذلك يسوع يخضع لأبيه، وكلمته هي كلمة الله. فآمن أنَّ يسوع كان له سلطان الله مساندة له، وان كلمته تُطاع فوراً حتى في دائرة المرض والموت. وكهذا خضع القائد لسلطة يسوع مؤمناً انَّ حضور يسوع المسيح يستطيع ان يشفي خادمه بكلمة منه.

9- “فلَمَّا سَمِعَ يسوعُ ذلك، أُعجِبَ بِه والتَفَتَ إِلى الجَمعِ الَّذي يَتبَعُه فقال: أَقولُ لَكم: لم أَجِدْ مِثلَ هذا الإيمانِ حتَّى في إسرائيل”: تشير عبارة “أُعجِبَ بِه” الى ميزة بشرية ليسوع حيث انه أعجب بإيمان قائد المئة الذي جعل نفسه بين يديه، وخضع له كما يخضع الجندي لرئيسه وتركه يقول ويفعل، مما جعل إيمان هذا الوثني يتفوق على إيمان بني إسرائيل. وعليه فإن لوقا الإنجيلي يشدّد على إيمان هذا القائد، أكثر مما يشدد على معجزة الشفاء. أما عبارة “هذا الإيمانِ” فتشير الى ان ايمان قائد المئة لا يقتصر على إيمانه أنّ يسوع قادرٌ ان يشفي من بعيد، ولا ان لدى يسوع سلطاناً خاصا على المرض، بل بالأحرى على ان يسوع يستمد سلطانه من شخص آخر، فكما أن كلمة قائد المئة تصدر عن كلمة القيصر، كذلك كلمة يسوع تصدر عن الله نفسه الذي ارسله. كما جاء في المزمور ” أَرسَلَ كَلِمَتَه فشَفاهم” (107: 20). فإيمان قائد المئة يقوم على تقبُّل سلطان يسوع بدون تحفظ.

10- “ورَجَعَ المُرسَلون إِلى البَيت، فوَجَدوا الخادِمَ قد رُدَّت إِليهِ العافِيَة “: تشير هذه الآية الى انَّ يسوع صنع لقائد المئة ما طلب من شفاء، لأنه آمن قبل ان يرى. ان معجزة يسوع لم تكن خيال او وهم، فمع ان خادم قائد كان على بعد، فقد شُفي بمجرد ان نطق يسوع بالكلمة. فلم تكن المسافات تشكل مشكلة، لان المسيح له سيادة وسلطان على المكان والمسافات، فلن تباعد المسافة بيننا وبين يسوع بحيث لا يقدر على معونتنا. فما دُمنا على هذه الأرض فرحمة الله قريبة منا فتشفينا روحا وجسداً، ولكن بعد الموت تتوقف الرحمة ويبدأ عدل الله كما قال ابونا إبراهيم “بَيننا وبَينَكم أُقيمَت هُوَّةٌ عَميقة، لِكَيلا يَستَطيعَ الَّذينَ يُريدونَ الاجتِيازَ مِن هُنا إِلَيكُم أَن يَفعَلوا ولِكَيلا يُعبَرَ مِن هُناك إِلَينا” (لوقا 16: 26).

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (لوقا 7: 1-10)

بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي (لوقا 6: 39-45) نستنتج انه يتمحور حول شخصية قائد المئة الإنسانية والروحية. ومن هنا نبحث في نقطتين: شخصية قائد المئة على الصعيد البشري والروحي.

1) على الصعيد البشري:

 كان قائد المئة قائدا وانساناً.

ا) قائد:

القائد يتمتع بصفات معينة لابد أن تتوفر فيه حتى يمكننا إطلاق كلمة قائد عليه، ومن أهم هذه الصفات: الثقة بالنفس والقدرة على اتخاذ القرار وتحمل مسؤولية ذلك، إضافة إلى تميزه بالرؤية البعيدة والأفق الواسع ورحابة الصدر، وهي كلها صفات ساعدت على الاقتراب من يسوع والايمان به ومن شيوخ اليهود ويحيطه الأصدقاء ويكون قريب خادمه المريض.

كقائد يمتلك مهارة كسب الآخرين اهتم قائد المئة بخادمه المريض، وبشيوخ اليهود وبيسوع المسيح. الكل يحبه مثلما هو يحبهم، ويحب الخير للجميع: طلب الشفاء لخادمه، وبنى مجمعا لليهود، وطلب ان لا يكلّف يسوع نفسه مشقة المجيء اليه ويقدِّر الجميع ويحترمهم. ويثق في قدراته ويُدرك تماماً قيمة العمل الجماعي أو العمل بروح الفريق الواحد فطلب مساعدة شيوخ اليهود للتوسط مع يسوع كما اوفد أصدقائه عند يسوع.

ب) إنسان

كان قائد المئة انساناً، يتمتع بشعور انساني رقيق. فأظهر هذا الشعور تجاه خادمه وشيوخ اليهود وأصدقائه والسيد المسيح. أما في اتجاه يسوع فلم يدعُه الى بيته تجنباً لإحراجه وخوفاً من ان يُسبب له نجاسة طقسية. فقائد المئة يعرف جيدا الشريعة السائدة في ذلك الوقت التي تُحرم على كل يهودي دخول بيوت الوثنية تحت طائل اقتراف نجاسة طقسية (اعمال 11: 3).

اما في يتعلق بخادمه، فقد “كانَ عَزيزاً علَيه”. يعرف ان يقدِّر خادمه ويحترمه، فأهتم بأحواله وأشفق عليه. وهذا الامر مخالف لطبيعة الرؤساء الرومان القاسية جدا الذين يتعاملون مع العبيد بقسوة شديده على انهم أقرب للحيوانات. اما قائد المئة فلم يأت الى يسوع ليجيب على طلب لنفسه، ولكن من أجل غيره. هو وسيط وشفيع. فأرسل وفد من الشيوخ اليهود كي يطلب الشفاء له من السيد المسيح. وهذا الأمر يوضِّح طبيعة قلب هذا الانسان الذي أصبح نموذجٌ حيّ لجميع الأسياد وأصحاب السلطة.

اما فما يتعلق بشيوخ اليهود فقد تمكن قائد المئة ان يحوّله اعداءه الى أصدقاء بمحبته وسخائه وذلك عن طريق تبرعه لبناء لهم مجمعاً للصلاة في كفرناحوم، كما صرّح شيوخ اليهود “يُحِبُّ أُمَّتَنا، وهوَ الَّذي بَنى لَنا المَجمَع” (لوقا 7: 5).

2) على الصعيد الروحي: 

اما على الصعيد الروحي فكان قائد المئة إنسانا مؤمنا ومتواضعا.

أ) انسان مؤمن

ذهب قائد المئة الى يسوع بإنسانيته وقلبه الواسع واستقامته، ولجأ ليسوع ليس باعتباره تعويذة سحرية، ولكن لأنه آمن بان يسوع المسيح مرسلٌ من الله وآمن بكلمته، واعترف به مخلصا وشافياً. والايمان هو قبول يسوع “كلمة الله بالذات” عبّر قائد المئة عن سرٍّ الإيمان، سر الكلمة الخلاَّقة والمجدّدة بقوله ” قُلْ كَلِمَةً يُشْفَ خادِمي” كما يؤكّده صاحب المزامير ” إِنَّه قالَ فكان وأَمَرَ فوجِد” (مزمور 33: 9). وان قبول كلمة الله معناه هجر الاصنام والاتجاه نحو الله الحي الحقيقي (تسالونيكي 1: 8-10). الأصنام الوثنية ليست بشيء (اشعياء 44: 9-20)، لأنه وجد في المسيح، مجد الله (2 كورنثوس 4: 6) الذي كان غريباً عنه (رومية 3: 23). لما وجد قائد المئة يسوع ، وجد فيه الانسان القادر على كل شيء والعالم بكل شيء والكلي الخير والصلاح، فوجّه طاعة الايمان نحو يسوع الذي أتى ليأخذ صورة الانسان (رومية 1: 5-13)، وآمن بالذي ارسله الله (يوحنا 6: 29)، وأعلن ان المسيح يسوع الانسان (1 تيموثاوس 2: 5) وسيط بين الله والناس. وبكلمة أخرى، لم يقرّ بإيمانه بقدرة المسيح فقط، بل وبعظمة شخصه أيضًا، فطلب إليه أن يقول كلمة واحدة، متأكداً أنها تكفي لشفاء خادمه. أقر بإيمانه بأن الرب ذو سلطان مطلق وقادر أن يصدر أوامره فيطيعه كل شيء.” فآمَنَ بِالرَّبّ، فحَسَبَ لَه ذلك بِرّاً” (تكوين 15: 6)

وكان هناك كثير من العقبات تحول بين قائد المئة ويسوع: الكبرياء، الشك، المال، اللغة، المسافة، الوقت، الاكتفاء الذاتي، القوة، وغيرها من المحاذير العرقية والدينية… لكنه لم يسمح لشيء من هذه الحواجز ان تمنعه من الايمان بيسوع وطلب الشفاء لخادمه المشرف على الموت.

آمن قائد المئة بيسوع قبل ان يُجري له يسوع المعجزة. آمن ان يسوع هو صاحب كلمة، ولا يفرق بين يسوع وكلمته شيء لا وقت، ولا بُعد، ولا مستحيل. فكلمته الذي يقولها عن بعد والتي يؤمن بها القائد كفيلة ان تحطم القيود وان تصنع المعجزات. وعليه فإنَّ المعجزة هي علامة خلاص يعرضه الله على يد ابنه يسوع المسيح. بالإيمان خلَّص قائد المئة خادمه، وخلَّص بخادمه أمة الوثنيين، وعلم الجميع طريق الايمان الصحيح بيسوع المسيح. فكانت هذه المعجزة علامة لكل الناس، وليست مجرد معروف وخدمة لقائد المئة. فالمعجزات ليس وقف على الشعب اليهودي من دون الاميين الوثنيين. وبالواقع، يرى لوقا الإنجيلي في إيمان قائد المئة تمهيداً لدخول الوثنيين في الكنيسة،

وأعلن يسوع ان إيمان قائد المئة الوثني فاق كثيرا كل إيمان وجده بين اليهود؛ فامتدحه بكلمات حرص لوقا الإنجيلي على تسجيلها في انجيله الذي كتبه الى المسيحيين من أصل وثني ” لم أَجِدْ مِثلَ هذا الإيمانِ حتَّى في إسرائيل” (لوقا 7: 9). أهتم يسوع بان من يطلب منه الشفاء عليه ان يكون مؤمناً. ولا يكفي الايمان المقتصر على المطالبة بالمعجزات، بل الايمان بدون تحفظ بيسوع وبكلامه؛ وهذا الايمان يؤدي الى الحياة. وبالعكس يسوع يوبّخ الايمان الذي يؤسس فقط على الآيات والعجائب ” إِذا لم تَرَوا الآياتِ والأَعاجيبَ لا تُؤمِنون؟” (يوحنا 4: 48). وعليه تعجب يسوع من ايمان قائد المئة الوثني في كفرناحوم من ناحية، كما انه تعجب ايضا من عدم ايمان اليهود بنى جنسه في الناصرة من ناحية أخرى(مرقس 6: 6).

وقد فهم قائد المئة ان عمل الشفاء لا يتوقف عند اليهود بل يصل الى العالم الوثني. الإيمان برسالة يسوع وتقبّل لندائه يتيح لكل إنسان الشفاء والخلاص والحياة الحقيقية في المسيح، أما اخذ الانسان من يسوع موقفا مغايرا، فيستبعد نفسه. وعليه فإن هذا القائد الوثني أصبح رمزاً ا لدخول الوثنيين الى الحياة، عكس اليهود الذين لم يؤمنوا (يوحنا 1/ 19).

ويُعد قائد المئة من الوثنيين المتعاطفين مع الديانة اليهودية والذي يدعوهم لوقا في اعمال الرسل “خائفي الله” (اعمال الرسل 18: 7) مما يُشكّل إعلاناً عن دخول الأمم للإيمان (متى 10:22-11). وقد سبق وتنبأ اشعيا النبي عن انضمام الاوثان غير اليهود الى الرب وقبولهم في هيكله على قدم المساواة مع بني إسرائيل ” وبَنو الغَريبِ المُنضَمُّونَ إِلى الرَّبِّ لِيَخدُموه وُيحِبُّوا آسمَ الرَّبِّ ويَكونوا لَه عَبيداً … آتي بِهم إِلى جَبَلِ قُدْسي وأُفَرِّحُهم في بَيتِ صَلاتي وتَكونُ مُحرَقاتُهم وذَبائِحُهم مَرضِيَّةً على مَذبَحي” (اشعياء 56: 6-7). وسرعان ما تزول الفوارق بين اليهود والوثنيين بفضل الايمان المسيحي: فالجميع اخوة في المسيح الذي يجمع المؤمنين في جسد واحد هو رأسه “فهُناكَ جَسَدٌ واحِدٌ ورُوحٌ واحِد، كما أَنَّكم دُعيتُم دَعوَةً رَجاؤُها واحِد”(أفسس 2: 4).

ب) إنسان متواضع

لم يكشف قائد المئة عن إيمانه فقط بل عن تواضعه أيضا، وذلك من خلال كلماته ليسوع “لم أَرَني أَهلاً لِأَن أَجيءَ إِلَيك، ولكِن قُلْ كَلِمَةً يُشْفَ خادِمي” (لوقا 7: 7). فالتواضع له مكانة كبيرة في عيني يسوع. إذ انَّ التواضع مناقض للكبرياء، فهو موقف الانسان الضعيف امام القدير. اعترف قائد المئة انه عبد ضعيف امام شخص المسيح وسلطته “لم أَرَني أَهلاً لِأَن أَجيءَ إِلَيك” (لوقا 7: 10). وراء هذه العبارة من المحاذير العرقية والدينية، أدرك قائد المئة أنَّ ليسوع علاقة خاصة بالله، فرأى ذاته غير مستحق بان يقف في حضرة الالوهية فأرسل اصدقاءه عندما اقترب يسوع من البيت لعبِّروا عن عدم استحقاقه لاستقبال الرب او حتى الاقتراب منه، بكلمات تنمُّ عن تواضعه “لم أَرَني أَهلاً لِأَن أَجيءَ إِلَيك” (لوقا 7: 7).

واقتنع قائد المئة بان كلمة من يسوع لها قوة خارقة للشفاء” قُلْ كَلِمَةً يُشْفَ خادِمي” (لوقا 7: 7). وانطلاقا من خبرته الشخصية بالسلطة باعتبار سلطان يسوع مشابها لسلطانه لم يأتِ قائد المئة الى يسوع لأنه أدرك بانه كما ان تنفيذ أوامره كقائد لا يتطلب وجوده شخصياً، كذلك فان شفاء خادمه لا يتطلب وجود يسوع بنفسه بل يكفي كلمة منه. فاجترح يسوع معجزة عن بُعد بقوة كلمته مُلبياً تواضع وإيمان هذا القائد الوثني بالرغم من ان يسوع كان معتاداً لدى شفائه الامراض القيام ببعض الحركات الجسدية مثل اللمس (لوقا 22: 51) ووضع اليد (متى 9: 18). وقد أعلن قائد المائة أمام الناس في كفرناحوم عن تواضعه وإيمانه بالمسيح بعبارة يرددها كل مسيحي قبل ان يتناول القربان المقدس: “فَإِنِّي لَستُ أَهلاً لِأَن تَدخُلَ تَحتَ سَقْفي ولكِن قُلْ كَلِمَةً تشفى نفسي “. والكنيسة لم تجد أفضل من هذه العبارة كي تتحضر بها لقبول سر الافخارستيا، وهي أفضل تعبر عن تواضع عميق امام الحقيقة. انفتح قائد المئة بتواضعه لقدرة نعمة المس كما جاء في تعليم بولس الرسول “بِنِعمَةِ اللهِ ما أَنا علَيه، ونِعمَتُه عَلَيَّ لم تَذهَبْ سُدً ى” (1 كورنثوس 15: 10). ومثل هذه التواضع يمجده الله (1 صموئيل 2: 7) لذا نجد السيد المسيح امتدح ايمانه قائلا “: لم أَجِدْ مِثلَ هذا الإيمانِ حتَّى في إسرائيل” (لوقا 7: 9). وهذا ما يؤكده يشوع بن سيراخ ” إِزْدَد تَواضُعًا لما ازدَدتَ عَظَمَةً فتَنالَ حُظوَةً لَدى الرَّب” (يشوع بن سيراخ 3: 21).

خلاصة

معجزة شـفاء عبد قائد المئة في نظر لوقا الإنجيلي هي دعوة موجّهة الى الانسان ليتقبّل بحرية الخلاص الذي يقدّمه الله على يد ابنه يسوع المسيح. فعن طريق المعجزة يعبّر يسوع عن قدرة الله وعن رغبته في خلاصنا. فالمعجزة هي عمل من اعمال الله بها يدعو الى الايمان بيسوع المخلص. وعليه فإن العلامة الأولى التي يجب ان ننتظرها من يسوع هي دعوته ايانا الى الايمان به، والايمان بيسوع يدعونا الى الخلاص بالله. لذا معجزة الشفاء لم تكن الخلاص الحقيقي، بل علامة له. ولكي نكتشف هذه العلامة لا بد من الايمان الذي يُمكّن الانسان من الاعتراف بعطية الله بالشفاء التي منحه إياها بواسطة يسوع. فإيمان قائد المئة استطاع بفضل المسيح ان يشفي خادمه ولكن هو نفسه حصل على الشفاء الروحي والخلاص.

وعندما نصلي من اجل حاجة او مشكلة، يبدو يسوع بعيدا عن أعيننا، ولكن كلماته حاضرة لتخلصنا، هل نؤمن به وبكلامه الذي يحقِّق خلاصنا في الاسرار خاصة في سر القربان الاقدس؟ علينا ان نكون على ثقة بقدرة يسوع المسيح على عمل ما يقوله. فالإيمان هو الحاسة السادسة التي تُمككنا من استقبال الحقائق الإلهية السماوية، والتحرر من جاذبية الأمور المادية والدنيوية ودخول في دائرة الأبدية.

ومعجزة شـفاء عبد قائد المئة تعلمنا أيضا كم مُهم اليوم، ونحن نعيش في عالم تمزّقه الخلافات والعرقية والدينية، ان نًدرك اتساع آفاق يسوع وانفتاحه، الذي هدم الحواجز التي تقسم البشر وقاوم مواقف عصره التي كانت تميل الى الانغلاق.

ومعجزة شـفاء عبد قائد المئة تعلمنا أخيراً ان يسوع تعجب من إيمان قائد المئة، فهل نتعجب من نجاح الآخر وايمانه؟ أم أحيانا يمنعنا الحسد من الفرح مع الفرحين ويحرمنا “الأنا” من هذا الإحساس بالآخرين كما أحس قائد المئة بخادمه المشرف على الموت.

لنؤمن بالمسيح ولنفتح قلوبنا له ونتخذه مخلصاً وفادياً ولنجدد ايماننا به بتواضع خاصة كلما تقدمنا لتناول جسد ودم الرب يسوع المسيح في سر القربان المقدس ونحن نردِّد كلمات قائد المئة ” يارب، لستً مستحقا ان تدخل تحت سفقي، ولكن قل كلمة واحدة فتبرا نفسي”! ولنطلب اليه ان يقول “كلمة واحدة ” من اجل مرضانا واللاجئين والمشردين والفقراء والمتألمين وأسرانا واصدقائنا وأهلنا ورعيتنا وكنيستنا وعالمنا فتجدّد فينا وفيهم الحياة، كما جدّدت الحياة في قائد المئة وخادمه.